مِن دُروس الغربة

سليم زروابي

في 19 سبتمبر 2021

تركتُ مكتبي في ساعات الأصيل وبدأت بالسير مارًّا بأشجار الكستناء التي تغطي المنطقة المرتفعة وتقع عليها الجامعة التي أعمل بها. كنت أراقب أثناء سيري السناجب وهي تأكل ثمار هذه الأشجار الباسقة وتقفز بينها متجاهلةً وجودي بشكل تام. خرجتُ من بين الأشجار لأصل إلى الشارع العام المؤدّي إلى الحي الذي أسكن فيه، والذي ينحدر بشكلٍ قوي في البداية ومن ثم يستوي على مهل حتى يصل السهل الذي يقع عليه بيتي، كنت استأجرته قبل عدة أسابيع. بعد أن وصلت الشارع العام، امتدّ نظري في اتجاه الشمس داكنة الاحمرار وقد غابت معظمها غارقةً في مياه المحيط الهادئ، ترافقها كوكبة من الغيوم الصغيرة الحمراء كأنها فرقة من حرس الشرف التي جاءت لتودّع نهارًا آخر.

أكملت سيري نحو البيت ومن حولي هذا المشهد السحري الذي يليق بِساكني جبل الأوليمبوس، وأخذت أنزل نحو السهل رويدًا رويدًا والشمس أمامي تغيب ببطء، حتى اختفت تمامًا حين أصبح الطريق سهليّ، وحلّ محل المشهد السحري ظُلمة الليل التي نزلت بسوادها على البيوت المتواضعة التي كانت في طريقي، فتخضّبت بها لتحوّل ألوانها الجميلة إلى ظلالٍ رماديةٍ كئيبةٍ.

نقلني هذا التحول الذي جرى حولي من متعة الشعور الجميل الذي ابتدأت به سيري نحو البيت، إلى الإحساس بحصارٍ داخلي فرضته عليّ العتمة التي انسدلت من حيث لا أدري، وشعرت فجأةً بانقباضٍ شديدٍ في صدري وحلّ بي شعورًا قوي من الوحدة؛ فقد أنزلتني هذه الظلماء من علياء النشوة المسحورة الذي أضْفاها عليّ المنظر الخلاب إلى قسوة واقعي الذي صدمني لأول مرة منذ وصولي إلى هنا، فقد فهمت فجأةً وبكل إدراكي وحواسي أنّني هنا غريبٌ تمامًا ووحيدٌ كليًّا! 

كان هذا في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1994، بعد حوالي شهر من وصولي إلى مدينة بيركلي في كاليفورنيا، حيث كنت قد سافرت إلى هناك مباشرةً بعد انتهائي من كتابة أطروحة الدكتوراه لأشرع في العمل كباحث في جامعتها المعروفة. كانت هذه المرة الأولى في حياتي التي أترك بها بلادي لأعيش في بلد غريب. وصلت إلى هناك وأنا متلهّف لبدء العمل على المشاريع العلميّة المختلفة التي سأنجزها هناك مع مضيفيّ الذين كانا من أهم العلماء في مجالي، والّذين كنت أحلم بالعمل معهما، لكنّي لم أفكر مسبقًا بحجم التغيير الكبير الذي سيطرأ على الجوانب الأخرى من حياتي، والذي تجلّى لي بكل حدّته في تلك اللحظة “الوجوديّة” التي داهمتني من دون ميعاد.

ما زلت أذكر تفاصيل تلك اللحظة ووقعها عليّ بوضوحٍ تام، فقد شعرت خلالها وكأنّني فقدت حواسي بشكلٍ كليّ، وانفصلت عمّا يدور حولي وترك عقلي وإدراكي جسدي. فأصبحت مثل الرَجُل العائم الذي تخيّله ابن سينا، معلّقًا في الفضاء بحيث لا تستطيع حواسه أن تشعر بأي جزءٍ من جسمه، ليتساءل عندها فيلسوفنا الكبير هل يعرف هذا الرجل المعلّق عن وجود ذاته؟ لكن لم يكن ما طرحته هذه اللحظة أمامي تساؤلًا عن الذات الفلسفية المجرّدة والعامّة التي قصدها ابن سينا بل عن الذات الخاصة، الشخصيِّة والعينيّة التي يتفرّد بها وجودي كشخص جاء في وقتٍ معين ومكانٍ محدد وفي سياق تاريخيّ واجتماعي خاص.

حتى أوضّح أكثر خصوصية هذه الأزمة الوجوديّة التي اعترتني، سأستعين بِالفيلسوف الانجليزي جون لوك الذي ‏استعمل الذاكرة كمعيار ‏أساسي في عملية تشكل الهوية الشخصية. ‏حيث ادّعى لوك أنّ ما يميز إنسانًا معينًا عن الآخر ‏هو ‏وعيه لحالته الحاضرة، وذاكرته التي تربط حالاته الماضية بها؛ أي أن الهويّة الشخصيّة للإنسان حسب جون لوك، هي استمرارية الذاكرة التي تربط ماضيه بحاضره والتي تعدّه للتعامل مع ما قد يأتي به المستقبل. طبعًا لم تأتِ هذه الأزمة نتيجة شرخ في استمرارية ‏ذاكرتي ‏لكنّها أتت ‏نتيجة شرخ في استمرارية المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي، وبالتالي في السياق الذي تكونت به ذاتي الشخصية واكتسبت مضمونها، واعتادت التفاعل معه. كانت هذه اللحظة هي التي أدركت بها عمقَ الشرخ الكبير في سياق وجودي، ليس فقط من ناحية ذهنية وفكرية بل وهي الأهم من ناحية نفسية وعاطفية، وأدركت بها أنني أمام تحدٍ كبيرٍ جدًا، عليّ أن أتعامل معه ومع إسقاطاته، والذي أدّى على مدار سنوات إلى تغيير جذري في فهمي لذاتي وعلاقتي مع محيطي، وما زال يضع أمامي التحديات حتى يومي هذا. 

عليّ التنويه في هذه المرحلة، أنّ هدفي من كتابة هذا المقال هو التحدث عن تجربتي الشخصية في الغربة، وما هي الأسئلة والتحديات التي وضَعَتَها أمامي، وكيف تعاملت معها. قد تكون هذه التجربة كونها شخصيّة غير مثيرة للاهتمام بالنسبة للقارئ، لكن الجدوى من عرضها استخلاص الخصائص العامّة التي قد تُلقي بعض الضوء على تجربة الاغتراب كحالة اجتماعية ونفسيّة كما عشتها، وإلى حدٍ كبير ما زلت أعيشها، وعمّا نتعلم منها بشكلٍ عام عن ذاتنا، ومحيطنا الاجتماعي وموقعنا فيه.