العالمية وبؤس الرّواية
العالمية وبؤس الرِّواية
حميد عبد القادر
حين نخوضُ في الحديث عن علاقة الرِّواية بالعالمية، لا مَناصَ من طرحِ سؤالٍ شائكٍ .. »من يصنع عالمية الرِّواية؟ وكيف يُصنع الرِّوائي « البيست سيلر »، الذي أضحى اليوم الرِّوائي الأكثر انتشارا في المكتبات وقاعات انتظار القطارات والحافلات والطائرات عبر العواصم العالمية. وما الغرض من انتشار الرِّواية دون غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى؟ وكلها أسئلة تجعلنا نغُصُ في عمق المؤسسة الثّقافية العالمية اليوم، وعلاقتها بالمنظومة الرأسمالية الغربية، التي خرجت منتصرة من « حرب باردة »، وصراع أيديولوجي، مع منظومة مغايرة، لعب فيه الأدب والرِّواية بالخصوص دورا لا يمكن نكرانه وتجاهله.
ومن ميزات هذه المنظومة الثقافية الرأسمالية التفكير في نشر السيطرة، والحيازة على مراكز النفوذ عبر العالم، خلال مرحلة أولى من نمو الرأسمالية وقد تحولت إلى امبريالية، ثم تلا ذلك صناعة « إنسان الاستهلاك »، الذي يتفرج ويستمتع بدل أن يفكر ويطرح السؤال. إنسان مُحاط بالفراغ، في عصر أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي « جيل ليبوفتسكي » تسمية « عصر الفراغ ». كما أحيط هذا الإنسان بعزلةٍ قاتلةٍ، فوجد أمامه فُرجةً تُخفف من آلامه وفرتها له السينما، وروايات تحكي حكايات تضمد جراح عزلته، وتمنحه فرصة السفر والانتقال لعوالم متخيّلة عبر حكايات تُسقى بماء الورد.
الارتباط بأدب الحكاية
هذه هي ميزة الثقافة الغربية / الرأسمالية اليوم، وقد ارتبطت بأدب الحكاية الذي يصنعه في فرنسا على سبيل المثال روائيين من أمثال « مارك ليفي » الذي ترعرع في مجال المال و « البزنس » والمؤسسات الخاصة التي تدر أرباحا طائلة، قبل أن ينخرط في الكتابة الأدبية في سن الثمانية وثلاثين، بروح المؤسسة التجارية، حتى أن أحد أبطال روايته الشهيرة « اليوم الأول »، يردد قائلاً: » أن تصبح ثريًا ومحبوبًا من خلال الاستمتاع برواية الحكايات، أليس هذا أجمل الأقدار؟ ». وقد اعترف « ليفي » نفسه في إحدى حواراته بأنّه « ليس كاتبًا أدبيًا »، بالرغم من أنّ الناشر يضع اسم « الرواية » على كتبه التي يطلع عليها الناشر ويقرأها، ويعيدها له حتى يتسنى له الأمر إعادة الكتابة وفق معايير السوق ومنطق الربح الذي أوصله إلى « كاتب » ذي 17 مليون نسخة.
هذه العالمية عبارة إذن عن صناعة تخضع لعملية تجارية تستجيب لمنطق السوق ويتحكم فيها الربح. تخرج من مؤسسات نشر كبرى، هي بالأساس مؤسسات رأسمالية، تروج لنظام عالمي ليبرالي. وهذا النظام الليبرالي تراه يقوم على إنتاج المُتعة والاستمتاع. ومن مهامه كذلك، نشر ثقافة الاستهلاك، وتحويل الثقافة إلى سلعة. وأصبحنا نعيش على وقع مفهوم صناعة الثقافة وتسليعها وتحقيق الربح منها، وهي ظاهرة تناولها « ثيودور أدورنو » و »ماكس هوركهايمر »، في كتابهما « جدلية التنوير » الصادر في 1944 أكدا فيه أن التحول في تسليع الثقافة يؤدي إلى تغيير الثقافة برمتها، ما أثر في جميع المنتجات الثقافية، بدءا من أفلام هوليوود إلى الموسيقى المنتشرة عبر العالم، وهو ما أوجد شكلا معينًا من الثقافة الشعبية التي تسعى لتلبية الاحتياجات المتزايدة للمستهلكين، مما أدى إلى فقدان هوية الإنسان، وبروز تحولات عميقة على مستوى الذات الإنسانية.
إنسان يحمل الكتاب في يد والسندويش في يد أخرى
لقد حاربت هذه المؤسسات أدبية النص الرّوائي، وفضلت عليه النص الحكائي (أي ذلك النص الذي يقوم على الحكاية) بغية تحقيق الربح وخلق إنسان ذي نزعة استهلاكية، وفق نزعة البحث عن المُتعة. فظهر إنسان يحمل الكتاب في يد والسندويش في يد أخرى، وفي مقلتي عينيه دموع رقراقة، وعواطف جياشة في ثنايا نفسه العميقة. من هنا أصبحت الثقافة مجرد استهلاك، والروايات مجرد « بيست سيلر » وأرقام مبيعات. فغابت التقاليد الأدبية الكبرى، ولم تعد الساحة الأدبية تعرف اليوم روائيين أصحاب صنعة أدبية، يضاهون روائيين عظام أمثال مارسيل بروست، ووليام فولكنر وجيمس جويس وارنست همنغواي.
أصيبتُ بالدهشة منذ أسبوعين، وأنا أتابع العدد الأخير من حصة « المكتبة الكبرى » التي يقدمها « فرانسوا بينال »، الذي ترك مكانه للناقد الأدبي و الصحفي « أوغسطين ترابنار »، حين شاهدتُ روائية فرنسية اسمها « سيسيل كولون » تختار رواية « ميزري » للأمريكي « ستيفن كينغ »، من بين الرِّوايات الخالدة التي يمكن وضعها في « حقيبة القُراء ». أعترف أن « ميزري » عبارة عن رواية مشوقة، لكنها ليست حسب تصوري رواية قابلة لأن تكون بمثابة الرِّواية التي نقول إنها « رواية خالدة »، فالخلود هو لرواية مثل « موبي ديك » للأمريكي « هرمان ملفيل »، وكم كان خيار الرِّوائي السنغالي الحائز على جائزة « الغونكور » الأدبية « محمد مبوغار سار »، موفقا حين تحدث عن « موبي ديك »، فوضعها في حقيبة الروايات الخالدة. لكن ما أدهشني أكثر هو أنه لا أحد من الكُتاب الحاضرين في بلاتو حصة « المكتبة الكبرى » ذلك اليوم، تحدث عن روايات القرن العشرين الخالدة التي غيرت مسار الكتابة الرِّوائية، وأحدثت بتفردها وتميزها قطيعة كبرى مع تقاليد الكتابة الكلاسيكية. لا أحد وضع روايات مثل « يوليسيس »، و « الصخب والعنف »، و « البحث عن الزمن الضائع ».
يوحي هذا الواقع بأنّ التقاليد الرِّوائية الكبرى اختفت، وحلت محلها تقاليد الرِّواية « البيست سيلر »، التي تعتمد على الحكاية السّاحرة، التي تُمتع القارئ، وتهدئ من روع النفس البشرية، ولا تزيدها هَم السؤال والبحث عن المعنى، فتروي تجارب الحياة الناجحة، ولا مجال لديها لتناول ما قد ينغص الحياة، ويزيدها إرباكًا، وقلقًا. لقد أصبحت الرِّواية بائسة بسبب هذه العالمية.