الأدب و الفن كمنقذ للانسان من طينه
جينا سلطان
مجلة عالم الكتب المصرية
الأدب والفن كمنقذ للإنسان من طينه
مقال عن رواية ( جريمة في مسرح القباني) لــ باسم سليمان في مجلة عالم الكتب المصرية.
جينا سلطان
« الحد والشبهة » أو « الجريمة والعقاب » ثنائيات ترسم ملامح الملهاة الإنسانية، المحكومة بالشرطية، التي تلزم الكينونة البشرية بالتحقق تحت سقف المتضادات، فيتسع صراع البقاء كي تتبادل الأنفس أدوارها وأطوارها، فوق خشبة المسرح الوجودي. فلا غالب ولا مغلوب، بل شاهد وشهيد أمام قدسية مطلقة تُفني المحكومين بالزوال دون أن يعتريها النقصان، فيكتمل البقاء في الفناء، بعد دوران الأكوار والتقائها في النقطة.
لأن الجريمة تقترن بالعقاب، يذكر الكاتب الحكومي في رواية « ملعون دوستويفسكي » البطل « رسول » بأن الروح سجينة الجسد، والجسد سجين مدينة « كابول » المنحورة عنفا وتشويها، ويقترح عليه اعتبار الحياة مشهداً في مسرحية. وباعتبار أن تغيير الادوار لا يؤدي الى تغيير الحياة، إذ يبقى المرء دوما في المشهد ذاته، فوق خشبة المسرح نفسها، للعب دور القصة ذاتها، ينصحه بأن يتخيل محاكمة الطغاة والجلاوزة كمسرحية، وبالتالي يتحتم عليه عند كل صعود على خشبة المسرح أن يلعب دور شخصية مختلفة، ابتداء بالمتهم ثم الشاهد، وأخيراً القاضي، ليدرك عدم وجود أي اختلاف بينها. ويؤكد كلامه بشعر لـ »عمر الخيام »: « نحن الدمى، والسماء من يحركنا.. هذه ليست حكاية رمزية، بل هي الحقيقة.. نلعب ونعيد الأدوار فوق مسرح الوجود.. ومن ثم نتساقط الواحد تلو الآخر في عمق المجهول ».
ضمن مساحة ورقية مختزلة يحاول الشاعر والناقد السوري « باسم سليمان » أن يقارب تاريخ الألم السوري ومعاينة الانفصال بين النفس والذات بفعل الالتباس بين الحدود والشبهات، والوقوع بالتالي تحت شرطية « الجريمة والعقاب ». وتبرز مجدداً ثلاثية المتهم والشاهد والقاضي، بعد أن تتلبس بإطار الكاتب والممثل والمخرج المسرحي.. وتعاود الدمى الظهور فتضيع المسافات الواضحة بين الشخصيات، لنغدو أمام كيان واحد متعدد الوجوه يخلع قناعا ويستبدله بآخر.
السلام هبة العنف إلى السوريين
تحت هذا العنوان يصدر « سليمان » روايته، قبل أن يخوض في تفاصيلها، التي تناور حول مفهوم الأضحية المقترنة بـ »اسماعيل ». حيث تلقى من المؤلف إسناداً تفسيريا يعود إلى « فرويد »، الذي يعتبر الإبداع المكتوب تصعيداً للمكبوتات غير المتحققة. وبالتالي، يصبح حلم النبي إبراهيم تصعيدا لمكبوت لا شعوري يقض مضجعه، ويغدو استسلام الابن لمصيره، على الرغم من تشكيكه بمصدر الرؤيا، مرتبطاً بكونه سيرث هذا اللاشعور عن أبيه، فالجرائم كالديون تورث، مثلما عوقب « راسكولينكوف » ونفي « دوستويفسكي ».
جثة تحمل اسم عبد الله بن أمة الله تمسرح حالتها، بوصفها ثمرة اغتصاب، أوجدت طفلاً وضع عند حاوية القمامة، كإشارة للاحتقار والنبذ. بينما يشير التوقيت إلى برهة قصيرة سبقت الجريمة المتأتية عن رفض اجتماعي للتغيير، والذي تمخض عن تفجير الأزبكية الدامي في بداية الثمانينات من القرن الماضي، لتصبح كلمة لقيط الملصقة بالطفل، والمرادفة للهجين، مجسدة لحاصل جمع حادثتي الاغتصاب والعنف معاً. فيما ترمز الحروق التي أصابت وجه الطفل إلى التشوه الذي لوث حلماً إنسانياً كبيراً نهض فوق الآمال العظيمة للمذلين والمهانين.
لذلك يكتسب تبني بواب الميتم للطفل معناه المزدوج، إذ يدأب الرجل على انتهاكه بذريعة الرعاية، فيكسبه بحكم السبب والنتيجة عادة اغتصاب رفاقه الصغار. وفي الوقت نفسه، يصعد العنف في داخله، ويدفعه للعمل في جمع القمامة، كزبال مياوم، نظراً لعدم وجود هوية نظامية تتيح له العمل في السلك الحكومي. وبالتالي، تُتاح له الفرصة للتنقيب في القمامة بحثاً عن ملامح أب سقط ضحية ذلك التفجير العنيف، قبل أن يلتفت إلى تجميع صور لوجوه عابرة يرمم بها جراح ذاته المتشظية. وبذلك يرمز إلى شخصية الظل التي تتلقى عادة مشاعر الحقد والكراهية، فيصبح البطل المضاد الذي يسقط على كاهله تبعات الرفض والنبذ في المجتمع.
يتحول « عبد الله » إلى شخصية البطل الإيجابي عندما يسقط عن وجهه دور المنفعل السلبي، ويقرر نكأ صديد الجرح القديم، فيستلهم تضحية « اسماعيل »، ليغدو الجثة التي تأمل بإيقاف دائرة العنف والعنف المضاد. ويتبنى إيمان « هابيل » بأن القاتل لا يقتل إلا نفسه، وما نفسه إلا القتيل الذي أزهقت روحه، فإثمه الذي سيُنحل إلى أخيه قابيل بفعل القتل هو الذي سيدرأ معضلة الشبهات بالحد. بالمقابل، يصبح الأحدب الهارب من ثأر قديم، والذي عمل بائع كتب نهاراً وحارساً في مسرح العمال « القباني » ليلاً شاهداً وحيداً على البطولة المؤطرة باليتم والخذلان.
مسرحية الجثة
يندمج الثالوث الإبداعي في إهاب « جثة » تفارق للحظات كفنها لتلقي نظرة على الصحف التي يسجلها منكر ونكير، فيقرأ عبد الله عن أمه الشابة التي اغتصبها المسلحون بعد أن قتلوا عائلتها وأخذوها إلى مكان آخر، ما جعل منه يتيماً ومهجراً ومقتولاً. فيما تنسبه
2 / 3
الأوراق إلى المسلحين، ويسجله « سليمان » ابناً للحرب، ويجعل قاتله لقيطاً أيضا. وبذلك، يتصل مبتدأ العنف في الثمانينات بالحاضر الدامي، ويصبح عبد الله الكائن الانتقالي الذي ولدته تلك الأحداث، ثم همدت كالنار تحت الرماد، في انتظار هبوب الريح المواتية، لتعصف بالسوريين مجدداً وتجعلهم كالدمى التي تحركها نار الفتنة.. ومع أن الدولة منحت عبد الله الهوية والجنسية لكن المجتمع رفضه، وأخلد إلى الأرض مثل آدم، ولم يدرك أن « عبد الله مثل كاف التشبيه التي تمتلك قدرة السحر على تحويل الجميع إلى أشباه ومشبه بهم ».
وهذا العنف الذي قارب على تطويق المستقبل يحتجزه فعل الفداء الذي يسمح لجثة عبد الله بأن تتلبس دور القاضي، لتبرأ « القاتل ـ اللقيط » من جريمته، من خلال إسناد الخوف إلى فعل القتل، لتتخلق العبارة اللاهوتية عبر شعار: « في البدء كان الخوف لا الكلمة ». فهذا الخوف يلوث صفاء البصيرة عند الإنسان ويدفعه نحو العنف كرد فعل غير مباشر لمواجهة التهديد الذي يمثله الطرف الآخر المختلف. وبالتالي ستتكرر القصة كل مرة، فيقتل قابيل هابيل بسبب سوء الفهم والعجز عن إتيان تفسير مطمئن لعدم قبول الأضحية.
من خلال « دمية » يؤدي عبد الله مسرحية الجثة، وحين ينهي حكايته الموجهة إلى كل السوريين، يشنق نفسه بخيط الدمية ذاته. فتأخذ شخصية المحقق « هشام » بطل المسلسل الإذاعي الشهير « حكم العدالة » مكانها في ترميم الفراغات المتروكة في النص، كتزامن مع عنصري التشويق والإثارة المتناسبين مع الحبكة البوليسية. فيبحث « هشام » القادم من طرطوس عن شبيهه في العاصمة، والذي يتجسد في الزبال، وحين يستنكر القواسم المشتركة بينهما يذكره الحارس بأن الحدس الجنائي يتكئ على حقيقة أننا « نبحث طوال حياتنا عن أشباهنا الأربعين لنكون علي بابا عليهم ». وهو ما يمهد ليصبح حارس المسرح ومحرك الدمى أحد الأشباه لقصتي آدم وإبراهيم، ويصبح السؤال متركزاً حول أسباب اختيار عبد الله الموت في ليلة عيد الأضحى.
الفداء ورمزية الأضحية الإبراهيمية
يعزو « سليمان » مقتل « عبد الله » في عيد الأضحى إلى رمزية الأضحية الإبراهيمية، بوصفها مسرحية تطهيرية تبرز خطيئة الإنسان الأولى للعلن، فيستعيد تفاصيل الصيانة الدورية للجوهر عبر طقس القربان، والتي تحجز فعل القتل عن إعمال بطشه فينا وعلينا. لأن خلود الإنسان إلى الأرض والتمسك بالإكثار والتضاعف على حساب نفحة الروح الممنوحة له، كما فعل آدم قبل التوبة، أبَّد استمرارية العنف، فظل قابيل يمد يده ليقتل أخاه، وبقي هابيل يمتنع، دون أن يؤدي امتناعه إلى نتيجة. حتى ورث « إبراهيم » الذي وصفه النبي محمد بأنه يبعث أمة لوحده، الخطيئة الأساسية. وكان يقصد بكلمة أمة المتعلم بذاته، بمعنى الباحث بذاته عن الله، وبالتالي، يكون جوهر الإنسان الذي في إبراهيم البشري قد نضج وتجاوز مرحلة الشجرة المحرمة.
مع « إسماعيل » انتقلت البشرية خطوة من العيان إلى المحاكاة، من امتناع هابيل عن قتل قابيل إلى تحويل هذا الامتناع والإثم الشخصي، الذي يرثه كل منا كسهم له من خطيئة آدم، إلى كبش الفداء. فإن لم نرتق إلى مستوى إبراهيم ونضع التعلق بالذرية والملك على محك الموت فلن ننجو من رؤى عبد الله التي بثها فيما كتب. وكتوسيع لهذه الفكرة يستدعي « سليمان » الموت كقيمة معرفية لماهية الأشياء، تتكئ على مقولة « الحلاج »: « اقتلوني يا ثقاتي ففي موتي حياتي ». ويعادل القتل هنا المعرفة، التي تترجم بتخلص « إبراهيم » من رغبة الخلود والملك الذي لا يبلى عبر دفع ابنه إلى المحرقة، فينجيه من إرث كان سيمتد في الإنسانية إلى يوم القيامة. وبالتالي، يضحي عبد الله بنفسه كي نتذكر تاريخ العنف فينا. ولكي نجبه علينا بالتطهر جميعا بأن نتمثل بهابيل، ونتبنى موقفه بعدم الالتفات إلى حصته من الإثم التي ورثها عن أبيه، ورفضه مد يده بالسوء إلى أخيه.
رمزية الدمية
يستنهض « عبد الله » دمية الغولم القماشية من حطام العنف الذي استنزف السوريين، فيخيطها، ويشحنها بمشاعره المتقدة، ثم يخاطبها، ويؤدي من خلالها مسرحية، تشكل هي جمهوره الوحيد.. ويكتفي عند التقديم بالقول: « أنا من سورية.. لن أزيد فالصفات فرقها عن الموصوف بحر من الدماء ». ومع أن « المسرح ـ الحياة » كان شغفه إلا أنه ينفي عن نفسه دور « المخرج ـ الفاعل » و »الممثل ـ المفعول به »، وكاتب الحكاية، التي تمثل أول فعل تجريدي بعد أن علم الله الأسماء لآدم أبو البشرية، ويكتفي بدور شاهد أدرك أن التطهير يتعلق بعنف بدائي بدأ كطوفان نوح، وما سفينته إلا الخشبة الأولى التي أعيد عليها تمثيل الحركة الأولى للحياة بعدما ابتلع الماء كل اللعنات والذنوب والعنف. وبذلك يعتبر الماء بمثابة السم والترياق معا، بحيث يعادل رمزية الأضحية، بمعنى الدم الأول الذي أنزل من السماء، فدبت الحياة في الأرض اليابسة، وفي الوقت نفسه، أعاد الحياة إلى العدم عندما استفحل العنف.
تدريجيا تكتسب الدمية ملامح الأنسنة، ويصبح حوارها مع الكائن الشبحي المتبقي من عبد الله بمثابة تكثيف لمساءلة اللحظة الراهنة، تمهيدا لبناء سفينة نوح تبحر على الحطام حتى تستقر فوق قاسيون. بالمقابل، يغدو الحنين جثة ضخمة، تعادل تلة من الخرداوت، يستدعي عبد الله منها الشهود على الماضي الذي ينتمي إليه، كي يشهدوا على الحاضر الذي تنتمي إليه الدمية. ومن ضمنهم الأب الذي قتلوه ولم يجيدوا دفنه، فقتلتهم رائحة جثته. ثم مرت سنوات وهم يحملونها دون أن يعرفوا ماذا يصنعون بها، حتى
3 / 3
علكوا لحمها كالصوف فيما كانت البلد تغرق بالقتل. وعقب قتل الآباء وتكاثر الأبناء كالجراد الذي أكل حتى قفزاته، أعلنوا قطيعتهم، ليأسسوا لأبوتهم وكراسيهم المصنوعة من عظام هؤلاء الآباء.
الرسام المنشغل بخلق نول الموت
يختزل « سليمان » صورة العنف بمظهرين، يتبدى الأول في الأولاد الذين « تربوا على ملح البارود، فسابقوا الديدان على مكب الموت دون أن يخالجهم الجزع، وملئوا أكياس عيونهم باللحم المحروق والأشلاء، حتى ينهار بغل النظر من ثقلها ». وأما الثاني فيعكسه فنان منحرف مغترب ارتدى لبوس حمامة السلام، وعاد إلى الوطن بعد سبعة عشر عاما، واستقر في قرى الغوطة المشتعلة، ليرسم الألم على حقيقته، جاعلا من مرسمه مذبحا للأضاحي البشرية؛ رجال الأمن والعسكر، المسلحين والمعارضين، والأناس الضائعين في معمعة الحرية والديكتاتورية.. وبالتالي، جسد الخلود إلى الأرض عبر التقنية التي تؤمن له تخليد الألم. وقد استهلك لرسم اللوحة التي تصدرت القاعة الكبرى في مبنى الأمم المتحدة خمسة نماذج حية؛ رجلان وثلاثة نساء.
بعد أن اشتم الفنان رائحة الشهرة والمال في عطر الجثث في بلاده، ورسم وجه الحرب لجمهور السلام في الخارج متخذاً نماذجه من مواطنيه، وأدى دوره فوق تلة الحطام جأر صائحا: « لو تعرف أنصال السكاكين أن مقابضها تصنع من العظام التي شف عنها لحمها »، ثم نزع السكين من رسغه. لتصدر جوقة من الأصوات تراتيل نثرية عن ملامح الموت في سورية، المتلبس بوجه طفل له كل الآباء والأمهات.. فيشرع سكين الأفق على اللسان بقطع الكلمة الشريرة، فيأتيه صوت من كل الجهات: « وفديناه بشعب عظيم »..
الحد لا الشبهة
عبر ثنائية الحد والشبهة يسند « سليمان » لشخصية الزبال دور سيد الثنائيات، كي يعيد المثال إلى الواقع، فيصبح عبد الله توأم الفنان المنحرف، يذكره دوما أن اليد التي ترسم تقتل أيضا. ولأن الحدود واضحة فيما تترك الشبهات الشكوك تلعب بكل يقين، يملي الحد على عبد الله تقديم نفسه أضحية تبتلع الحرب، لكونه بلا وارث، وبالتالي لن يولد الثأر. وبذلك ستسقط على كاهله اللعنات والآمال والماضي والحاضر، ولا يترك سوى النقطة، كي تعتمد بداية لمستقيم لا اعوجاج فيه. بالمقابل، سيقتضي الحد بأن لا تموت الذاكرة، بل تتحول كي تؤتي ثمار النسيان. فالفتات المتراكم حول تلة الخردة سيعود إلى الحرب، التي لن تتوقف حتى يدرك « الفنان ـ حارس المسرح » بأن الموت هو والد الفن، ولولا محاولة الإنسان مواراة سوءة الموت لما وجد الفن. وبالتالي ينهض الأدب والفن كمنقذ للإنسان من طينه.