بؤس النظرية
مساءلات في النظرية النقدية
د. وحيد بن بوعزيز
كتب المقال الباحث والكاتب نور الدين قدور رافع
نُشر في القدس العربي
ما من شك في أنّ الوضع الثقافي العربي يواجه تحديات كثيرة، لا تتوقف عند المعنى الحقيقي للثقافة، ولا الفعل الذي يقوم عليها، فالثقافة وإن تفاضلت عن سائر العلوم في تأثيراتها الإيجابية/السلبية على الفرد/المجتمع، تمثل ميدانا خصبا لمفهومية الصراع/التعايش، وهي بذلك تستند إلى الأدبيات الأساسية التي نظّر لها العديد من المفكرين، للوصول إلى «قيمة إنسانية» اختلف في تحديد مضامينها مع التغييرات الطارئة على الحضارة، من جملة الكتب التي قدمت طرحا جديدا في الدراسات الثقافية، مساءلات الجزائري وحيد بن بوعزيز في كتابه «بؤس النظرية»، الذي يرافع فيه بشكل استثنائي عن النقد بوصفه حالة صحّية للعقل لاستمرارية تجدده واستقلاليته، حيث الثقافي والهوياتي والإنساني والتاريخي يأخذ تمثّلات قابلة للتصنيف، والتجديد والإعارة، وهذه المقالة تحاول الغوص بحذر إلى ما ترمي إليه مساءلات كتاب «بؤس النظرية»، مستعينة بالمراجع التي نهل منها المفكر وحيد بن بوعزيز ليقرّب للقارئ الجزائري/العربي «القابلية النقدية» بعيدا عن مخرجات النظرية البائسة.
الاحتفاء بالبعدية
افتتح كتاب «بؤس النظرية» بعد المقدمة الموجزة، بمقالة تدور جدليتها حول البعدية والحداثة، ومدى قدرة الخطاب بوصفه ميدانا تتجسد فيه القوّة بطريقة ابتكارية لتحسين التمثيلات، إذ أنّ المساءلة لم تكن حول مفهومية الحداثة وما بعدها، بقدر ما أراد صاحبه أن يعزز موقفه الرامي إلى أنّ البعدية التي يتفاخر بها البعض تعد ضربا من الدجل، الذي ترصّع باللاواقعية لدى يورغن هبرماس وتيري إيغلتون، وقد تعزز ذلك بالبحث عن «الشرط الحداثي» الذي يفضي إلى تخلي الغرب عن ارتباطه الوثيق بالمؤسسة الثقافية والدينية التي تمارس أجهزتها العنف بأسلوب استدعائي مادي، ما خلق صراعا وجوديا تروّج له الإمبراطورية، بدل النضال السياسي في وجه اعتداءاتها المستمرة على العالم.
إنّ فكرة الاحتفاء بالمنافي والهجرات التي تميّز بها جيل إدوارد سعيد، لم تكن بمنأى عن النقد لدى الكاتب الذي حمل اعتراضات المفكر الباكستاني إعجاز أحمد، على ربط الاستشراق بالاستعمار والاستعمار في الشرق بصورة عنيفة، إذ أنّ افتقاد المثقف الذي يعيش الشرط الكولونيالي أو العالم الثالث، مدعاة إلى إعادة قراءة المنجز الأدبي في الجامعات الغربية، وفق أخلاقيات الاعتراف وسياسات الهوية. وهذا يحيلنا إلى الكتابات النسوية، وما بعد الاستعمارية المحشورة داخل أرضية مشاحناتية مفرغة من الخصوصية، التي تراهن عليها الحركات الثورية، فصراعها ضد البطريكية ورفضها للقوى الاستعمارية، متغافلين عن كتاباتهم التي عززت من خطابها الصراخي، بدل خلق مركزيات جديدة تدور رحاها حول الأنثى والمهمشين، من أجل ذلك رافع الكاتب عن رفضه للمثقف الداعم للتخصص، كونها حالة استمرارية للهيمنة الليبرالية الجديدة، وهو يرمي إلى احتكار العولمة للحقيقة، في قالب علمي لتُملِي على البشر قيمها من منظور إمبراطوري.
كانت فكرة الثقافة وجدلية التخصص، كما تضمنها كتاب «بؤس النظرية» تستبين العلاقة الثقافية على ما هو مكرّس ومشاع، وما هو معتمد ومخصص، إذ أنّ التحول الرهيب للسرديات الكبرى حول مفهومية وفاعلية الحرية والحقيقة والحياة والنضال، باتت وَهْما بتنصلها عن الاهتمام بالفردانية في نظر فوكو، ودريدا، كيف لا وقد تنتقل نصوص وأيديولوجيات بمَعَاوِلها من التعبير عبر الكتابة ضد الامبراطورية، لتغدو أبواقا للنيوكولونيالية.
الذاكرة وطلب الصفح
لطالما كان الصراع على الذاكرة مدعاة لسؤال الاعتراف وطلب الصفح، ومدى أهمية أن يقف الجلاد وضحاياه وجها لوجه في محكمة من صنع التاريخ، أو الإنسانية، أو المستقبل الذي ربما يحمل تطلعات حضارية، فمن الوجهة النظرية تستعير الذاكرة تمثلها من التاريخ، مع فرض مفارقة مضمرة، كون التاريخ حقلا علميا لا تقل أهمية موضوعاته عن السرديات التي تبثها الذاكرة في كتابة التقارير، التي تعني بالضرورة عملا سياسيا موجها من طرف النخبة، ومع أنّ الفروق الدقيقة التي أفردها الكاتب وحيد بن بوعزيز عن الذاكرة والتاريخ، كونهما حقلين منفصلين ومترابطين، لدرجة استحالة التفريق بينهما، إلا أنّ العمل على الذاكرة ونفيها للضمير الجمعي يمنح التاريخ فضاء خصبا وحيويا يرتكز على الصراع المؤثث للسرديات المحلية، وعلى ذلك كان التأسيس للكتابة عن الذاكرة يقوم على تحريرها وتفتقها من السرديات المهيمنة عليها، بدل الصراع المحتدم لاسترجاع الماضي وتفريغ المستقبل.
عالج الكتاب تقرير بن يامين ستورا، بوصفه خطابا مؤسساتيا يرمي إلى تجسير علاقات الصداقة بين بلدين، في ظل توترات سياسيات متموّجة يتحتم معها النظر في جدية موضوعية التقارير المنبثقة عن الجانبين، من أجل ذلك كان على حرّاس الذاكرة أن يتخلصوا من الفائض التاريخي الذي يتم توظيفه في حملات دعائية واستعراضية، لا تمت بصلة إلى مفهومية الاعتراف وطلب الصفح، بل بتكريس الاحتيال السياسي المستغل للقضايا المصيرية في ملف الذاكرة، ومع أنّ تقرير ستورا قدّم في مهمته الصعبة حلولا تقاربية أكثر منها نهائية لمسألة الذاكرة، إلا أنّ الإقرار بالقابلية للندية من طرف المستعمِر لمستعمَره، يعد ضربا من الخيال الذي يتجرّعه أتباع الكومبرادورية، إذ أنّ افتقاد الرغبة الحقيقية في كتابة التاريخ المحلي كمنجز متين، ليس لاستعادة الذاكرة تمثّلها فحسب، بل بإلغاء الخطابات التي لطالما كان لها السبق في الترصد لأيّ محاولة تغيير جذري، تزيح عن الدولة/الأمة أولئك الذين استنسخت منهم الاستعمارية الجديدة آباء تاريخيين لشعوبهم، كما أنّ النزعة القائمة على استغلال الآخر واحتقاره ما تزال تأشيرة النيوكولونيالة في عدم قبولها طلب الصفح منه، ولعل الندية التي يبحث عنها الكاتب، تنطلق من الاعتراف الذاتي للمستعمِر، كونه ما زال يعيش الشرط الكولونيالي بصيغته الجديدة، بدل رفع الرايات البيضاء في وجه ذوي الأقدام السوداء، الذين يمارسون عنفا سياسيا/اقتصاديا باستلابهم الحق في كتابة التاريخ، فالمسكوت عنه والمغيّب محليا أكبر من أن تتجاوزه تقارير ستورا، التي لم تسلم من تحريك الآلة الدعائية الاستعمارية.
الترجمة وسؤال الهيمنة
تعد الترجمة أداة تواصلية بين الحضارات، كما أنّها وسيلة مثلى في تقارب ثقافي مبني على الاختلاف والتنوع، غير أنّ فعل الترجمة انطلاقا من ضروراتها الملّحة في تقديم نصوص عابرة، تحمل في طياتها تغليب النظرة المركزية الإمبراطورية، فسؤال الترجمة بمدلولاته الكيفية والزمانية غير منفصل عن دوافع حمل نصوص الشمال بصيغها الخطابية التي تدور في فلك الفضاء الثالث، أو ضمن سردية ليبرالية جديدة عولماتية، يتم من خلالها النفخ بأشكال الهيمنة المرنة ذات النزعة الإنسانية، تلك النزعة وإن عدّها الكاتب حصان طروادة بلونه الحضاري المتميز عن صور العنف المادي، غير أنّ فعله الرمزي من حيث تجاوز الذات الجنوبية كوصف ثنائي يتواطأ مع الإقرار بعدم جدوى التفاوض في سياق كولونيالي متجدد، ينحدر من سقف تحضره إلى أبشع الصور التي اختزلتها الإمبراطورية في قيمها المفرغـة.
إنّ سؤال الترجمة بصيغته التواصلية والندية للآخر، كان من المميزات التي أشار إليها الكتاب، فهي لا تخلو من الانحياز، ولا التمثيل المركزي، والوعي بذلك يحتم على المشتغلين في الحقل النقدي والمعرفي أن يستعيضوا عن القراءات التوجيهية من المؤسساتية العابرة، بصياغة قراءات تنطلق من قابليتها للتمثيل والنقد، وقد استعان الكاتب وحيد بن بوعزيز في تعزيز موقفه، بالدعوة إلى قراءة فكر بن نبي بعيدا عن الاختزال الأيديولوجي والأحكام التوجيهية المسبقة، فالبنابية (نسبة للمفكر الجزائري مالك بن نبي) ما تزال حية تزاول نشاطها وفق الكاتب، في ظل اختلاق الاستعمارية حالات استلاب مماثلة ومتطورة، والوعي بتلك الحالات والنصوص المستوردة منها، كفيل بأن تستعيد فكرة تصفية الاستعمار زخمها وقوّتها في العالم العربي.
ما يلفت الانتباه في كتاب «بؤس النظرية» المفعم بالمعاني، والثري بالمصطلحات الفلسفية، تلك القوّة النقدية على تفكيك المنجز الفلسفي والثقافي والأدبي، وتمحيص تمثلاته الحداثية والبعدية في سياقه التاريخي الاستثنائي، من دون ادعاء تنظيري أو تقليل نخبوي، وقد فتح بذلك مسارا نقديا بإرجائه كل الأحكام المسبقة، بغية المحاججة والمساءلة النقدية لكل فعل تنظيري، عبر القراءات التشكيكية والبحثية، ومع أنّ الكتاب حمل طابعا أكاديميا بمكنونه اللغوي والبحثي والنقدي، إذ يفرض على قارئه الاستعانة بالمنجز المعرفي المتعلق به، إلا أنّ مؤلفه وحيد بن بوعزيز استطاع أن يرافع بكل أريحية واستقلالية عن «النزعة النقدية» التي ترفض أيّ شكل من الاستعلاء والاستقواء.
نور الدين قدور رافع